الاهتمام بدراسة البنى التقليدية مطلوب وضروري ولا غنى عنه لبحث عملية التحول السياسي الاجتماعي في مجتمعاتنا. فنفوذ هذه البنى يظل مهيمناً, وفي أحيان غالبة حاسماً في تقرير حجم ومدى وشكل وآفاق التحول السياسي, لأن البلدان النامية عامة لم تخضع أو لم تمر بتغييرات حاسمة قطعت مع هذه البنى أو فككتها أو أنهت دورها. حتى البلدان التي عرفت أنظمة راديكالية جاءت إلى السلطة تحت شعارات التحديث لا تشكل استثناء, لأن ما أدخلته من تغييرات ظل في الغالب عند حدود السطح الخارجي أو القشرة الخارجية ولم يمس عصب البناء التقليدي الموروث. وفي أحايين كثيرة فإن عمليات التحديث العشوائي استنفرت واستفزت البنى التقليدية وأطلقتها من عقالها, فحين قيضت لهذه البنى أول فرصة لرد الاعتبار لنفسها ولدورها لم تتردد في ذلك. وهنا لا بد من توضيح أمرين: الأول, إن الحديث هذا يكتسب مبررات مهمة عند مقارنة واقع البلدان النامية مع الواقع الغربي, في أوروبا خاصة, حيث أدت الانقلابات الثورية الكبرى هناك إلى صوغ روح حداثية جديدة طبعت سيمياء المجتمع, فلم يعد الحديث عن ثنائية التقليد والحداثة حاضراً بالقوة التي هو عليها في بلداننا. أما الأمر الثاني فيكمن في أن الحديث عن البنى التقليدية لا يتضمن حكم قيمة, نعني أنه لا يحمل بالضرورة مدلولاً سلبياً, انطلاقاً من واقع أن هذه البنى مكون أصيل من مكونات البنيان الاجتماعي السياسي في هذه البلدان. ثمة عامل مهم آخر للاهتمام بالبنى التقليدية, تكويناً ودوراً وأفقاً. يكمن هذا العامل في ما نود أن ندعوه ثنائية التقليد - الحداثة التي تعد أحد عوامل الجدل في مجتمعاتنا, سواء كان ذلك على صعيد الفكر والنظرة للحياة أو على صعيد الخيارات الاجتماعية الثقافية, التي تشمل ضمن ما تشمل شكل الحكم والمشاركة السياسية. بل إن المجتمع العربي الإسلامي خاضع لهذه الثنائية منذ نحو قرنين على الأقل في جدله الداخلي وفي جدله مع الآخر. ونتحدث هنا عن الحداثة بوصفها حركة انفصال, أي كونها قطعاً مع الماضي, ولكن ليس بهدف نبذه وإنما لاحتوائه وإدماجه في مخاض التحديث المتجدد, فهي والحال كذلك اتصال وانفصال, استمرار وقطيعة. هذه الثنائية ليست اختيارية, بل هي مخاض موضوعي لا بد من اجتيازه.