السيّدة مريم بنت عمران(ع)
هي السيدة الطاهرة العذراء المعصومة الزكية الطيبة الطاهرة التقية، سيدة نساء عالمها، مريم بنت عمران(ع)، من نسل إبراهيم خليل الرحمن(ع).
ولادتها(ع)
رُوي أنّ حنّة زوجة عمران كانت عاقراً لم تلد، إلى أن عجزت، فبينما هي في ظلّ شجرة أبصرت بطائر يطعم فرخاً له، فتحرّكت عاطفتها للولد وتمنّته فقالت: يا ربّ إنّ لك عليّ نذراً، شكراً لك، إن رزقتني ولداً أن أتصدّق به على بيت المقدس فيكون من سَدَنته وخدمه. وقد استجاب لها الله سبحانه، فحملت، وأثناء حملها توفي زوجها عمران.
وقد أشار القرآن الكريم إلى تلك الواقعة بقوله تعالى: {ربِّ إنّي نذرت لك ما في بطني محرّراً فتقبّل منّي إنّك أنت السميع العليم} [آل عمران:35].
حياتها(ع)
كانت حياة السيدة مريم(ع) عبارة عن سلسلة من الامتحانات والبلاءات والمعاجز والصبر على ما كتب الله تعالى، وأولى تلك الامتحانات أن أمها، التي كانت ترجو أن ترزق غلاماً لتهبه لخدمة بيت المقدس رزقت بنتاً، والبنت لا تقوم بالخدمة في المسجد كما يقوم الرجل، وأسفت حنّة واعتذرت لله عزّ وجل فقالت: {ربّ إنّي وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى}[آل عمران:36].
ولكن الله سبحانه وتعالى قبل هذا النذر، وجعله نذراً مباركاً وهذا ما أشار إليه القرآن الكريم: {فتقبّلها ربّها بقبولٍ حسن وأنبتها نباتاً حسناً..} [آل عمران:37].
وقد ولدت مريم(ع) يتيمة، فآواها الله عند زوج خالتها نبي الله زكريا(ع)، وكان هذا من رحمة الله بمريم ورعايته لها، قال تعالى: {وكفّلها زكريا} [آل عمران:37].
وشبّت مريم(ع)، وبيتها المسجد، وخلوتها فيه، وبلطف الله بها كان الطعام يأتيها من الغيب، وكلما زارها النبي زكريا(ع)، وجد عندها رزقاً، فكان يسأل عن مصدر هذا الرزق لأنه هو كافلها، ويأتي الجواب: {هو من عند الله يرزق الله من يشاء بغير حساب} [آل عمران:37]
وطوال تلك المدة كانت مريم(ع)، وهي المنذورة المقيمة في المحراب، فتاة عابدة قانتة في خلوة المسجد تحيي ليلها بالذكر والعبادة والصلاة والصوم.
الامتحان الأكبر
كان الامتحان الأكبر لمريم(ع)، العابدة الزاهدة المطهرة، أن بشّرها الله سبحانه وتعالى بولد منها، وهي من غير زوج، فقالت: {أنّى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر} [آل عمران:47]، ولكن الأمر الالهي أتى، ولا مردّ له، {كذلك قال ربّك هو عليّ هيِّن ولنجعله آية للناس ورحمة منّا وكان أمراً مقضياً} [مريم:21].
إن الله سبحانه وتعالى أخرج هذه الآية العظيمة للناس حتى يمتاز المؤمنون عن الكافرين، فشاءت حكمته أن تبتلى امرأة عابدة صالحة بحمل من غير زوج، يصدّقها الصادقون المؤمنون، ويكذّبها الكافرون المجرمون، ويكون ابنها الذي قضاه الله وقدّره على هذه الصورة معجزة وآية في خَلقه وخُلقه، رحمةً للناس في زمانه، وبعد زمانه، وليمهّد الطريق لخاتم الأنبياء والمرسلين محمد بن عبد الله(ص).
بعد أن حملت مريم(ع)، وبدأ بطنها يكبر، خرجت من محرابها في بيت المقدس إلى مكان تتوارى فيه عن أعين الناس حتى لا تلفت الأنظار، ولا تثير في وجهها الاتهامات، وقد ألجأها المخاض إلى جذع النخلة، وهي وحيدة طريدة، فتضع حملها ولا أحد إلى جانبها يعتني بها ويواسيها... وقد اجتمعت كل هذه الهموم والمصاعب على السيدة مريم(ع)،وهي من هي في عالم الايمان والتقوى، حتى وصل الأمر بها إلى أن تتمنّى الموت كما أشار القرآن الكريم: {قالت يا ليتني متّ قبل هذا وكنتُ نسياً منسياً} [مريم:23].
وحاشا لله، سبحانه وتعالى، أن يترك إنساناً آمن به ولجأ إليه، وخاصة إذا كان كمريم المصطفاة(ع) التي أتاها النداء الإلهي ليعطيها الأمن والأمان.. فناداها مولودها من تحتها: {ألا تحزني قد جعل ربّك تحتك سريا وهزّي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطباً جنياً} [مريم:24ـ25].
..وهنا تأتيها المعجزات بالجملة، فهذا جدول ماء رقراق يفجّره الله لها، وها هي،وهي ضعيفة من آثار الولادة، تستطيع أن تهزّ جذع النخلة فيتساقط عليها الرطب جنيا.
أما مسألة لقائها قومها، فقد تكفّل بها الرحمن، جلّ وعلا، حين أمرها بالصوم عن الكلام، ولتدع ابنها، السيد العظيم، يتولى الدفاع عنها، وبيان المهمة الكبيرة، والرسالة العظيمة التي سيؤديها.
ولمّا أتت قومها، واستغربوا حملها وإنجابها، أشارت إلى طفلها الوليد، فاستنكروا ذلك وقالوا: {كيف نكلّم من كان في المهد صبيا} [مريم:29].
ولكن الله سبحانه وتعالى أنطقه قائلاً: {إني عبد الله أتاني الكتاب وجعلني نبياً* وجعلني مباركاً أينما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حياً* وبراً بوالديت ولم يجعلني جباراً شقياً* والسلام عليّ يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حياً} [مريم:30ـ33].
...وهكذا يشاء الله سبحانه وتعالى لمريم العابدة(ع) ولابنها النبي عيسى(ع)، أن يواصلا رحلتهما لأداء الرسالة الإلهية التي حمّلها إياها.