- أنتِ لا تفهمين!
- اسمعيني يا منيرة، الطفلة مريضة.. وأنت لا زلت في فترة النفاس.. ووالديك كبيرين في السن..
اعقلي يا منيرة وارجعي لزوجك
- أنت لا تعرفين شيئاً.. ولا يمكن أن تعرفي..
لا تتحدثي بما لا تعرفين يا جواهر
عضت جواهر شفتها بقلق.. وهي ترمق أختها.. لطالما كانت منيرة مثالاً متجسداً للعناد.. ورغم ذلك لديها شخصية مغناطيسية عجيبة!
لها جمال حاد وشرس.. وملامح تنطق بالغرور والكبرياء.. عيناها الواسعتان مركزتان دوماً على شيء واحد.. هو ذاتها!
* *
أنهت إرضاع صغيرتها (فرح).. بللت قطنة بزيت الأطفال.. وبدأت بتمريرها على وجهها.. استوقفتها ملامح صغيرتها..
إنها تذكرها بإلحاح بملامحه الهادئة المستسلمة دوماً .. الصدغين الخاليين من الشعر.. الذقن المدور الناعم .. الخدين المكورين وكأنه يبتسم على الدوام..
بدأ الشريط المؤذي يتكون أمام عيني منيرة..
كذرات من الدخان تتجمع وتتكاثف لتشكل صورة مزعجة..
صورة لطالما كرهتها.. وأنكرتها..
إنها تحاول منع هذه الذكريات.. والمضي قدماً في قرار الابتعاد عن تركي.. لاشيء يجبرني على البقاء معه..
تغيره نحوي منذ بداية الزواج.. لقد تغير كثيراً.. ولم أكن أصدق كلام الصديقات حين يرون لهفته أيام الخطوبة فيعلقون بمرح.. هذي أيام العسل الوحيدة.. ستحرمين منها بتاتاً بعد الزواج..!!
لماذا يفضل أمه العجوز علي؟ ويطيعها بكل شيء وكأن كلامها قرآن منزل..؟؟
صمته يقتلني.. أشعر أنه جماد.. لو لمرة أود أن أشعر أني أعيش مع إنسان.. يبادلني المشاعر والأفكار ويناقشني في كلامي..
ثم مع الحمل بدأت شخصيته تتكشف لي.. انه إنسان متقوقع على نفسه.. منطو على ذاته .. يبتعد عني ويتهمني أنني أنا من لا تريد قربه..
ويتكابر الألم في نفس منيرة.. ويتضخم.. ويصور لها الإحساس بالقهر والإهمال كل سلبيات تركي.. ثم فجأة.. تتذكر تلك النظرة المؤلمة في عينيه الندية بالدموع وهو يقول حين غادرت لمنزل أهلها..
(ما في شي يسوى بدونك.. فكري وارجعي لي)
* *
في شقة مظلمة حزينة.. تتناثر الملابس بإهمال واضح.. وبقايا الأكل مرمية على الطاولة.. ورائحة المبيت والبرود منتشرة..
وهناك.. على سرير خاوٍ من الحياة.. ومن حوله بقايا شموع ذائبة.. يتكئ تركي.. وقد أهمل ذقنه بدأ الاكتئاب يرسم على ملامحه الوادعة مسحة من حزن وقهر دفين ..
لماذا فعلتيها يا منيرة؟
أنت لا تدرين كم.. أحبك..
ألأني لا أستطيع البوح بما في داخلي..؟
لأني رجل يفعل ولا يتكلم..؟
لأني رجل يحبك بكل ذراته.. تتركيني..؟
لا أذكر كم مرة.. جلست أجول في الشوارع مستتراً بليل الرياض.. لأحضر لك كلمات انتقيتها بعناية.. لتشبع غرورك وتشبه كبريائك.. ثم آتي مشتهياً حديثك وجلوسك فتلقيني بعبوسك وجفوتك..
وأفتح فمي لأبدأ الحديث.. فتبادريني بجمود..
تتعشى؟
تعشيت..
وأتهيأ لأن أنطق بـ (حبيبتي...)
وأبدأ بحديثي..
فتصعقيني برصاصتك الباردة:
(تعشيت مع أمك؟ أوكي مو مشكلة.. أنا بعد طلبت عشاء.. وتعشيت من برا.. والحين بعد ما شبعت من أمك وشبعت من ربعك.. تصبح على خير)
فيموت كل الكلام.. وكل الشعور.. وها أنت رحلت.. وأنا بقيت.. ألوك حزني وبرد الحياة من دونك..
* *
ها هي (فرح) تكمل عامها الأول في
10/12/1426هـ..
وميلادها هو ذاته يوم انفصال والديها ..
اليوم هي ليلة العيد..
يأتي مسج لجوال منيرة.. تقفز لترى رقماً لطالما حفظته كان (توأم روحي) ثم أصبح الآن مجرد رقم.. مسح من ذاكرة الجوال..
(كل عام وأنتِ عيدي يا منيرة.. كل عيد وأنتِ حبي الأول والأخير.. تركي..)
تهاوى بداخلها كل كبرياء.. وبدأ الحنين يصرخ بجنون..
بيتها الصغير..
أحلامهما معاً..
تخطيطهما للحياة..
ولحياة فرح..
حبه..
عطاءه..
تدليله..
كم هي الحياة جافة من دونك يا تركي!
كم ظلمتك.. وظلمت نفسي!
* *
فجر العيد.. جاء ليعايد.. خرجت منيرة وسلمته فرح.. احتضنها بشوق.. فرفضت أن تترك يدي أمها.. لاحظ الاثنان أن فرح متشبثة بهما جميعاً.. وتجذبها لبعض بطريقة أحرجتهما..
رفعت رأسها إليه..
كان ينظر لها بعمق..
وفاجأته هي بدمعة سقطت على خدها..
فارتبك قائلاً:
(كل حب.. وأنتِ عيدي..) !!
* *
كيف ذاك الحبُ أمسى خبراً ....... وحديثاً من أحاديث الجَوى