وهكذا انقضت عشر سنوات من عمرها.. وبقيت ابنتي من دون اسم على الأرض. كنتأناديها.. طفلتي.. حبيبتي.. اللقبين اللذين يطلقهما الأب عادة حالاً مفعمين بالحبّالأبوي، لكن عزلة أيامها الصارمة حالت دون التواصلات الأخرى كلّها. مات اسم موريلاعند وفاتها. لم أُحدّث البنت عن أمّها نهائياً ـ كان الكلام مستحيلاً. لم تحصلالطفلة خلال فترة وجودها القصيرة على أي انطباع عن العالم الخارجي إلاّ ما كانبالإمكان أن تتحمّله بالحدود الدنيا في عزلتها. مع الزمن.. مثّلت مراسم معموديتها،في حالتها المتقدة الهادئة، تحرراً ذهنياً فورياً من مخاوفي المستقبلية. ولدى تنفيذالمراسم تروّيت قبل إطلاق الاسم. احتشدت بين شفتي عناوين متعددة وألقاب تجمع بينالحكمة والجمال، تنتمي إلى الزمن الغابر والمعاصر، ومن بلدي ومن بلدان أخرى ـوأسماء متعددة جداً تحمل معاني الدماثة والسعادة والخير. ما الذي حضّني وأزعج ذكرىالميتة المدفونة؟ أي شيطان حرّضني على إطلاق ذاك الصوت، الصوت الذي مال عنداسترجاعه لتحقيق انسياب الدم الأرجواني وسقوطه في عملية مدّ، من الصدغ إلى القلب؟وأي عفريت نطق في أغوار نفسي، فصرخت في ردهات الكنيسة، وفي سكون الليل، صرخت في أذنالرجل الطاهر الكلمة ـ موريلا؟ وهل يستطيع غير شيطان أن يزلزل ملامح طفلتي ويفردهامقترنة بمظاهر الموت.. وما أن انطلق ذلك الصوت النادر حتى رفعتْ ناظريها خلفالنظارة عالياً، وخرّت ساجدة فوق الألواح السوداء في سردابها السفلي ـ وقالت: هاأنذا!
واضحة ببرودة وسكون، كنا قوس الموت ـ رهيب هو الموت وفظيع، وغرقتالأصوات الأبدية في نفسي. انقضت سنوات ـ سنوات عديدة، لكنّ ذكرى تلك الفترة لمتفارقني! عجزت عن نسيان الزهور والكرمة ـ ظللتني أشجار الشوكران والسرو ليلاًنهاراً.
نسيت الزمان والمكان، وذبلت نجوم قدري في السماء، وتنامت ظلمةروحي، وعبرتني أشكال الأرض كظلال سريعة، فرأيت موريلا وسط ذاك الركام كلّه. هبّترياح السماء لكنّ صوتاً واحداً استمرّ يرنّ في أذني، ودمدمت أمواج البحر دوماً ـموريلا. لكنّها ماتت، وحملتها بيدي إلى المقبرة،وضحكت طويلاً ذات مرة عندما لم أجدأثراً للأولى في المقبرة حيث مددت موريلا الثانية.